جاءت بيعة العقبة تتويجاً لجهد وترتيب استمر 3 سنوات قبيل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مثالاً لحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم ووعيه السياسي، وقدرته على إدارة شؤون الدعوة في بيئة تقف حاجزاً منيعاً بينه وبين نشر الدعوة إلى الله في مكة، وأخطار تتهدد كل خطوة يخطوها صلى الله عليه وسلم. فقد اجتمع النبي مع 3 وفود من أهل يثرب، في كل موسم من مواسم الحج على مدار 3 سنوات، وفي كل عام يتجدد العهد وتزداد الرغبة في الذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمهد البيئة في يثرب أكثر استقبالاً للنبي والدولة الناشئة، وينتشر نور الإسلام أكثر في بيوت يثرب، ويتضاعف العدد الذي يبايع النبي صلى الله عليه وسلم على النصرة والحماية والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي هذه السنوات انصرف جهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تربية الحاضنة التي تستقبل الإسلام، وتغيير النفسية التي يستشرف معها مستقبل الإسلام، هذه النفوس التي تتحول في هذه المدة الوجيزة من اقتتال بين أحياء هذه المدينة إلى قلوب متآلفة، متحابة، بل ومتطلعة لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته. 3 سنوات ووفود يثرب تترى على مكة، وتقابل النبي صلى الله عليه وسلم، وتتعهد له بالإيمان والنصرة والحماية، وقريش لا تعلم عن ذلك أي شيء، إنها الحيطة والحذر والسرية التي نجح النبي صلى الله عليه وسلم في فرضها على هذه اللقاءات، التي لو افتضح أمرها لكانت كفيلة بإنهاء الوجود الإسلامي بمكة كلها، ولم يكن يعلم بها إلا نفر قليل جداً من المسلمين، الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر لأنهم كانوا عوناً له على إدارة هذه اللقاءات بعيداً عن أعين قريش، مثل أبي بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبدالمطلب، الذي لم يكن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. ومن تمام الحذر أن الوفود التي جاءت لتبايع النبي صلى الله عليه وسلم من يثرب ما كانت تأتي منفردة للحج، بل تخرج مع القوافل التي تخرج للحج، ولا أحد يدري بها، حتى الذين خرجوا معهم، فقد جاء نحو سبعين رجلاً لمبايعة النبي صلى الله عليهم وسلم في بيعة العقبة الثانية ضمن قافلة تضم نحو خمسمائة شخص من يثرب، ومن ثَمَّ لا يمكن أن يشك سادة قريش في هذا التحرك. حتى موعد البيعة ولقاء النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة تأخر إلى الليلة الأخيرة قبل مغادرة القوم راجعين إلى يثرب، حتى لا تستطيع قريش أن تعترضهم أو تمنع مغادرتهم في حال اكتشفت أمر هذا اللقاء، وكان الرجل أو الرجلان يتسللان خفافاً إلى موضع لقاء رسول بعد أن ضرب النوم رأس القوم، ولم يصطحب النبي صلى الله عليه وسلم معه في هذا اللقاء إلا العباس بن عبدالمطلب زيادة في الحيطة والحذر. ولم يستغرق اللقاء كثيراً من الوقت، حيث طلب الرسول من القوم أن يعودوا سريعاً إلى رحالهم حتى لا يفتقدهم أحد، أو يلتفت أحد إلى تخلفهم، أو تكون هناك عين للمشركين فيشيع خبر لقائهم. وتجلت سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة هذا اللقاء بأن طلب منهم أن يختاروا منهم 12 نقيباً، يكونون كفلاء على القوم، وفي ذلك إشعار من الرسول الكريم بأن القوم أصبحوا مسؤولين على أنفسهم، ولا يحتاجون سفيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اليوم، بعد الفترة التي قضاها مصعب بن عمير في يثرب يعلم المسلمين أمور دينهم، ويدعو إلى الإسلام؛ فهم الآن مسؤولون عن حماية الدين والذود عنه.;