كانت نشرات الأخبار في التلفزيونات العربية قبل سنوات، مجرد سرد متواصل لأبرز أخبار اليوم محلياً وعالمياً. وكان البطل فيها هو المذيع ذو الصوت العريض والملامح الجامدة. الأخبار المحلية أولاً، ثم تتبعها الأخبار السياسية العربية والعالمية، ثم جولة على أخبار الاقتصاد، وأخيراً يأتي دور الأخبار الرياضية في دقيقتين أو ثلاث. مذيع واحد أو مذيعان يتبادلان قراءة أخبار النشرة، لا محلل سياسي يعلق على أخبارهما في الاستوديو ولا خبير في شؤون أخبارهما يلتحق بهما عبر الأقمار الاصطناعية من قارة أخرى. خبر يتلو خبراً حتى تنتهي النشرة، هكذا بكل بساطة. ولم يكن حظ البرامج السياسية في التلفزيونات العربية كبيراً، فمن النادر أن تعرض كاميرات التلفزيون المحلي أو الفضائي وعبر استوديو مغلق، برنامجاً حوارياً سياسياً يتناول شأناً داخلياً أو إقليمياً. وإذا فعلت فإن الضيف في العادة يكون مشتغلاً بالسياسة لا ناقداً لها وباحثاً فيها. تغيرت الحال مع ظهور القنوات الإخبارية العربية في العقدين الماضيين، إذ أصبح لزاماً على العاملين فيها أن يملأوا ساعات البث الطويلة بالأخبار وما وراء الأخبار وما في كواليسها وتأثيراتها في التجارة والاقتصاد والعلاقات البينية بين الدول، وانعكاساتها على الحراكات المجتمعية والثقافية وحتى الفنية. هذا التدافع الكبير نحو الأخبار والانفتاح غير المسبوق على توابعها صنع في لحظة تاريخية إخبارية حاسمة «المحلل السياسي العربي»! بث الأخبار لأربع وعشرين ساعة في اليوم وعلى مدار سبعة أيام في الأسبوع، أخرج المارد من قمقمه، وأجلسه بزيه الأنيق على طاولة لامعة في استوديو مجهز لنقل صورته وصوته إلى ملايين المشاهدين. لكن السؤال المرحلي كان يطل برأسه حينذاك: ما هي مواصفات هذا الكائن؟! لم يكن أمام الفضائيات في ذلك الوقت سوى ثلاثة أنواع من المحللين السياسيين، هم: كتّاب الرأي السياسي في الصحف والدوريات السياسية، والباحثون في مراكز الدراسات السياسية، والسياسيون المتقاعدون عن العمل! بدأت الحكاية من سنوات واستمرت حتى اليوم. مذيع يتحدث إلى المشاهدين حيناً وإلى ضيفه المحلل السياسي حيناً آخر. ينقل الخبر كما هو ثم يلتفت إلى المحلل السياسي بجانبه طالباً منه التعليق على «ما ورائيات الخبر». ولكوني من الفريق الأول فإنني أتلقى في الأسبوع أكثر من اتصال هاتفي للمشاركة في معارك الأخبار - كما أسميها - والتعليق على الأحداث السياسية العربية التي لا تنتهي. لكني كنت دائماً أتحرى ثلاثة أمور في التعليق السياسي كمحلل وباحث في القضايا السياسية: أولها، ألا يكون للمذيع دور في توجيه إجاباتي في شكل يتماشى مع أجندته الخاصة أو أجندة محطته الفضائية أو توجهات دولته مستضيفة القناة. ثانياً، ألا أوضع في قفص مع محلل سياسي آخر، ويُطلب منا أن ننقض على بعضنا لنرضي مشاهدي المحطة ونجلب أكبر عدد من المشاهدات. ثالثاً، أنا هنا لأقول رأيي في الأخبار، وأطلع المشاهدين على ما توصلت إليه من نتائج بعد ربط الأحداث واسترجاع ما كان ماضياً من مؤشراتها وتوقع ما هو في المستقبل من تأثيراتها. دوري هنا كمحلل سياسي ليس التصفيق أو التمجيد أو الوقوف خلف خبر سياسي بعينه أو فكرة سياسية معينة والهتاف لها كما يفعل مشجعو الكرة. * كاتب سعودي