×
محافظة المنطقة الشرقية

تجربة ملتقى "مغردون" في البحرين

صورة الخبر

يكاد الزخم التواصلي عبر وسائله التكنولوجية الحديثة يصادر حق الإنسان في اعتزالها، وقف الاتصال بها جميعاً، الابتعاد بذاته خشية فقدها وذوبانها في تيار التشابه، فالغالبية هناك بمن فيهم بعض الكتاب والمثقفين باتوا أسرى لركوب موجة التشابه، وتكرار الحديث عن المسألة ذاتها في نمطية تبدو مبررة لتحقيق حضورهم الذي باتوا يتوقعون أنه لا يكتمل إلا بوجودهم هناك، وليس بأفكارهم المبتكرة والخلاقة. يكاد ينقرض حق الإنسان في عدم المثول أمام شاشات الآخرين بصورة أو عبارة، ويكادون يصادرون عليه حقه في أن ينسى، أو تمحى صورته من ذاكرة، ويبدو لهاث الغالبية وراء الوجود، أو متابعة الموجودين سبباً في قلق حديث ربما لم تتضح ملامح تشخصيه طبياً أو نفسياً، وسيتأخر إيجاد علاجه طالما لم يبدأ البحث الجاد عنه. لا يحتاج المرء إلى أدلة كثيرة لكي تتبين تأثيرات هذا الطوفان على النفسية والمزاج العام، على يوميات الحياة، التي ربطت بهذا الزخم، حتى وصل الأمر إلى أن هذه الوسائل ربما تجرح، أو تبلسم، القلوب والأنفس، تبعاً لتعقيدات العلاقات التي تبنى من خلالها، أو تبنى خارجها ثم تنجرف لتقع في مصيدتها، بحثاً عن وسيلة اتصال، فتقع في وسائل «الانفصال». المثير للشفقة أن البعض يعجز عن الفكاك منها، حتى لو ادعى الخروج أو التقليص، تجده يلجها من أبواب خلفية، أو خفية، بالاستتار حيناً، وبتكييف الخصوصية التي تمنحها بعض البرامج، لكنه في الحقيقة يهرب من فضاء إلى فضاءات، ربما هي أصغر، لكن واحدها ينمو ليصبح فضاء بذاته، وبدلاً من أن يكون البعض أسير فضاء مفرد، يصبح أسير فضاءات مجتمعة. لا يعني ما أقول المطالبة بالعودة إلى ما قبل الانغماس في هذا الزخم، أو تجاهله تماماً، أو الاستغناء عن خدماته الاتصالية، لكنه يروم إلى تجاوز الإدمان المفرط، حتى لا ينفرط عقد العلاقات الإنسانية من المحسوس والملموس والمعاش وجدانياً، إلى حبيبات من الجمود الآلي الذي يفرضه وضع الآلة- الجهاز الذكي أو الحاسوب- بين البشر بعضهم بعضاً. لا يمكن للإنسان الطبيعي أن يعيش عيشة سوية من دون وسط إنساني حوله، وسط اجتماعي بأفراد يتفاعل معهم حقيقة، يراهم مجسدين أمامه، يشم روائحهم الطيبة والكريهة، ويستشف طيبتهم وخبثهم من نظرات عيونهم، ويتفرس في لغة جسدهم. وإذا ما انحدر الحال، سيخرج جيل بشري تبنى علاقاته ومشاعره على وجود الآلة، ويكون أعزل على رغم كل ما يعتقد أنه يحيط به. المعادلة هنا تبدو شاقة، وموازنتها تبدو ممكنة لجيل عاش المرحلتين، مرحلة التواصل الطبيعي، ومرحلة التواصل عبر البرامج، لكنها ستبدو مستحيلة لمن زعزع العصر التقني الرقمي مصادره الطبيعية الأخرى للتلقي والتفاعل، أو لمن كان من الجيل الأول لكنه فتن بها وأدمنها. الإنسان اليوم بحاجة إلى خفض سقف التعود والاندماج مع هذه الوسائل، بحاجة إلى الوجود كل فترة إلى مكان لا توجد فيه شبكة انترنت، أو أبراج اتصال، ليرى قيمته الحقيقية، من خلال تذكر قيمة الحياة، ومعانٍ تكاد التقنية تئدها، لكن لا أحد يسأل: بأي «تطبيق» وئدت؟