قال الشيخ علي محي الدين القرة داغي في كتابه الاجتهاد، والذي ينشر على حلقات بصحيفة «العرب» طوال شهر رمضان المعظم: «يقول ابن عاشور: (وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول صادراً في مقام التشريع، وما كان صادراً في غير مقام التشريع، وإذا أشكل عليه أمر سألوا عنه) والدليل على ذلك أن سيدنا عمر لما راجعه صلى الله عليه وسلم في الأمر بذبح النواضح في مجاعة، أخذ برأيه، وقال النووي: (عائشة وابن عباس لا ينزلان بالأبطح -في الحج- ويقولان: هو منزل اتفاقي لا مقصود) وأمثلة كثيرة . وقد تعرض لجانب منها في المقال السابق ويواصل فضيلته في هذا المقال «رابعاً- ثم إذا وجد النص من الكتاب أو السنة الصحيحة الثابتة، فلا يجوز العدول عنه، ولا الاجتهاد معه للوصول إلى مخالفته، ولكن ذلك لا يعني عدم جواز الاجتهاد فيه، فقد كان الصحابة والفقهاء يجتهدون في النص ويختلفون في معانيه، ولكنهم لا يجتهدون معه، فعلى هذا يفسر رأي عمر في المؤلفة قلوبهم، حيث فسر عمر المؤلفة بشكل لا يشمل هؤلاء الذين جاؤوا إليه، وكذلك آية السرقة فسرها بأن السرقة لا تتحقق مع الضرورة التي تبيح المحظورات وهكذا . خامساً- إن فهم السنة بصورتها الصحيحة إنما يتحقق إذا ضمت إلى القرآن الكريم وجمعت معه في الموضوع الواحد ثم طبق عليه المنهج الجامع الشمولي القائم على نظرية الشفع كما سبق، وذلك بان يجمع في الموضوع الواحد مثل المال كل الآيات والأحاديث الواردة فيه ثم فهمها على ضوء قواعد الفهم والاستنباط التي ذكرناها عند الحديث عن المصدر الأول، ثم القيام بعملية الجمع الذي هو الأولى والأصل، أو الترجيح عند وجود تعارض لا يمكن درؤه، وذلك فهم الحديث في ضوء أسباب وروده وملابساته ومقاصده وغاياته، والتمييز بين الأحاديث الواردة في الوسائل والأحاديث الواردة في المقاصد. ولي على هذا الكلام والتقسيم بعض الإيضاحات، والملاحظات، من أهمها أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع تأبير النخل يدل على تشريع الرجوع إلى أهل التخصص، وأن الأمور الدنيوية كلها تحتاج إلى بيان أحكامها الشرعية من خلال الكتاب والسنة. ضوابط التشريع من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتروكه للوصول إلى كون الفعل بياناً طريقتان؛ حيث قد نصل إلى معرفة ذلك إما عن طريق التصريح بذلك، أو عن طريق القرائن. أولاً: أن يصرح النبي صلى الله عليه وسلم بقوله بأن فعله بيان للحكم الفلاني مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي « بعد قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة}، وكذلك الأمر في الحج ونحوه، وكذلك دل الإجماع على كونه بياناً. وهذه الطريقة صريحة وواضحة في دلالة كون الفعل للبيان. ثانياً: أن توجد قرائن على ذلك، وهي كثيرة ذكرها الأصوليون هل يدخل الزمان والمكان والهيئة في البيان؟ أثار الأصوليون مسألة ما إذا فعل فعلاً وكان بياناً، ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة، فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة؟ وقد أجابوا عن ذلك بأن الهيئة والكيفية تدخلان في البيان، وأما الزمان والمكان ففيهما تفصيل؛ حيث فرقوا بين زمان ومكان ليس لهما دخل في الفعل، وبين ما إذا كان لهما علاقة به، يقول الغزالي:» وأما الزمان والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها، ولا مدخل له في الأحكام إلا أن يكون الزمان والمكان لائقاً به بدليل دل عليه كاختصاص الحج بعرفات والبيت، واختصاص الصلوات بأوقات خمس». دلالة التروك على الأحكام ليس المراد بالترك هنا الترك السلبي المجرد، وإنما المراد به: الترك الذي يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ترك فعل معين، أو بعبارة أخرى هو ما وجد المقتضى لفعله، وتمكن الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله، ومع ذلك تركه قصداً، فلا شك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم العريضة الممتدة منذ البعثة إلى الوفاة تشمل الكثير والكثير إذا وسعنا دائرة الترك، وجعلناه في مقابل الفعل. ولكن هذا العموم ليس مراداً، ولا هذا الشمول في الترك مطلوباً، ولذلك حدد مفهوم الترك بترك شيء كانت الدواعي تقتضي فعله، ولكنه صلى الله عليه وسلم تركه، كما أنه كان ذلك ممكناً، وإلا فلو لم يكن بوسعه فعله لا يدخل في هذا الترك الاصطلاحي، ولذلك أدخله بعض الأصوليين في الفعل، وسموه بالكف، غير أننا رجحنا استقلاليته؛ نظراً لاختلاف دلالة كل واحد منهما.;