بهاء محمود* أجريت الانتخابات التشريعية الفرنسية عبر جولتين تمتا في الثاني عشر والثامن عشر من الشهر الجاري، تنافست فيها الأحزاب التقليدية الاشتراكي، و«الجمهوريين»، واليسار والخضر، والجبهة الوطنية «اليمين المتطرف»، فضلاً على الوافد الجديد حزب الرئيس الفرنسي ماكرون «الجمهورية إلى الأمام» الذي تصدر المشهد السياسي عقب فوز ماكرون بالانتخابات الرئاسية. قراءة وتوقع نتائج الانتخابات التشريعية، بدأت مبكراً ممثلة في تصويت الناخبين في جولة الإعادة للرئاسة الفرنسية محققة فارقًا كبيرًا لصالح ماكرون على حساب منافسته لوبان، الأمر الذي أعطى مدلولاً على قابلية تكرار سيناريو الرئاسة ومنح حزب ماكرون فوزاً وأغلبية تقيه الدخول في مرحلة تعايش كسابقيه في فترات رئاسية ماضية، وتعطي الرئيس أيضا الفرصة الكاملة لتنفيذ أجندته الانتخابية لذلك كان طبيعيا أن تتصدر استطلاعات الرأي تفوق حزب «الجمهورية إلى الأمام»، على منافسيه، مع توقع عودة اليمين المحافظ للمشهد مرة أخرى، لكن نسب الإقبال على التصويت أعطت مدلولات جديدة، فقد شهدت تراجعا غير مسبوق منذ تأسيس الجمهورية الخامسة ورئاسة الجنرال ديجول 1958، إذ بلغ حجم الممتنعين عن التصويت 56.6% في الجولة الثانية، أغلبهم من الطبقات المتوسطة والدنيا خاصة من الشباب والرجال، والذين تضرروا بشدة في عهدي ساركوزي وهولاند، من أزمات عجز الدين العام وقانون العمل «المشهور بقانون «الخمري»، وغيرها من الأزمات التي أخفق في علاجها رئيسان يمثلان التيارات التقليدية الحاكمة دائما، من اليمين واليسار، وهو التفسير الأقرب للمنطق ومعللا سبب إحباط الناخبين وعدم قناعتهم بالنخب الموجودة من الأطياف كافة.ومن هنا- وبحسب ما أوضحت البيانات الرسمية، من حصول حزب «الجمهورية إلى الأمام» وحليفه «موديم» على 355 مقعداً، ثم اليمين التقليدي «الجمهوريين» 125 مقعداً، ثم الاشتراكيون 49 مقعداً، واليسار وحليفه الشيوعي 30 مقعداً، وفي ذيل القائمة حزب «الجبهة الوطنية» وزعيمته ماريان لوبان 8 مقاعد- فهذه الأرقام ترسل إشارات واضحة لما ستؤول إليه الأحزاب السياسية في المستقبل القريب على الأقل، فحزب الرئيس ماكرون تمكن من أغلبية مطلقة تكفيه لتشكيل حكومة من حزبه دون الحاجة لتحالفات أو فوز حزب آخر يعيق تنفيذ برنامجه الرئاسي، في المقابل نسب مقاعد الجمهوريين لا تكفي لتشكيل معارضة قوية ضد الحزب الحاكم الجديد ومن ثم خسارة جديدة لليمين التقليدي واستمرار بقائه خارج أطر الحكم منذ هزيمته في 2007.الحزب الاشتراكي الحزب الحاكم في الفترة الماضية تراجع بنسبة هي الأقل في تاريخه منذ نجاح ميتران في توحيد قوى اليسار عام 1981، حيث بلغ أقل عدد مقاعد عام 1993 وحصل آنذاك على 57 مقعداً، والآن يحصل على 49 مقعداً، متحملاً بذلك فاتورة خسائر رئاسة هولاند، وعدم تقديم رؤية واضحة للحزب في الانتخابات الرئاسية أو التشريعية، وانعكاسا للانشقاقات المستمرة التي يتعرض لها الحزب.في المقابل لم يستطع المرشح الرئاسي السابق «جان لوك ميلنشون» جذب ناخبين لتحالفه اليسار بأكثر من 30 مقعداً، في إعلان آخر لرفض الناخبين الوجوه التقليدية والخطاب الذي تبناه، وإشارة أخرى تبين اختلاف نوعية الناخب في الانتخابات الرئاسية عنه في البرلمانية. على الجانب الآخر رغم دخول ماريان لوبان للمرة الأولى للبرلمان الفرنسي، لكن حزبها لم ينل سوى 8 مقاعد فقط، لا تكفي لتكوين كتلة برلمانية، في استمرار رفض الناخبين للخطاب العدائي الذي شنته لوبان طوال حملتها الانتخابية دون أن تقدم حلولا واضحة تسعف بها الأزمات الراهنة وتجذب إليها جمهوراً جديداً، كما يسجل أيضاً تراجعاً في شعبيتها، ويبرهن على رفض المواطنين الفرنسيين فزاعة الخوف من الإرهاب بالقضاء على الآخر غير الفرنسي، ورغبتهم القوية في تغيير الخطاب المعلن، وتقديم حلول جديدة، والاحتماء بقيم العلمانية الفرنسية والسماحة، التي طالما رددها ماكرون في خطاباته إبان حملة ترشحه.مكاسب أخرى حصل عليها ماكرون بالإضافة لتمكينه من الأغلبية المطلقة، هو تغيير النخبة السياسية برمتها في المجتمع من أطياف لم تعمل في مناصب قيادية تنفيذية سابقة أو وجوه معروفة، وذلك عبر ترشيح حزبه أكثر من 52% من المجتمع المدني الفرنسي نصفهم من النساء، لم يمارسوا العمل السياسي من قبل، لديهم أطروحات جديدة، وجوه غير مألوفة لديها رغبة في التغيير وبرامج تتسم بتقديم رؤى تساهم في حل إشكاليات أخفق فيها تياران سابقان تنافسا على مداولة الحكم منذ 1958 وحتى 2017، كما تدعم الأطر الثلاثة التي وضعها ماكرون لنفسه من فرض معايير أخلاقية جديدة للحياة السياسية، وإصلاح قانون العمل، ثم تعزيز سبل مكافحة الإرهاب.في هذا السياق استطاع ماكرون عبر ترشيح حزبه، نصف قوائمه سيدات، 233 سيدة من أصل 464 مرشحًا، بالإضافة لحليفه حزب «موديم» الذي رشح هو الآخر 36 سيدة من أصل 73 مرشحا، وكذلك ترشيح باقي الأحزاب بنسبة متقاربة، أن تصل مقاعد السيدات في البرلمان الجديد إلى 223 مقعدا بنسبة 38.65%، وهو أكثر من حجم مقاعد البرلمان السابق الذي بلغ 155 مقعداً، الأمر الذي يمكن اعتباره خطوة جديدة ومهمة نحو العدالة النوعية «الجنسانية»، وانتصارا لنضال الحركات النسوية والمجتمع المدني الفرنسي. لم يكن خفياً على الناخب الفرنسي، في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، رؤية كل حزب وعلاقته بالاتحاد الأوروبي ومؤسساته، بدءاً من إصلاح الاتحاد الأوروبي عند ماكرون حتى الخروج منه على يد لوبان، لذلك فإن ترتيب المراكز في سباق الانتخابات التشريعية، عكس رغبة المواطنين في البقاء في الاتحاد الأوروبي لكن وفق رؤية ماكرون وحزبه الإصلاحي، فهو لا يريد البقاء في الاتحاد الأوروبي وفرنسا لديها عجز موازنة أو زيادة في معدلات البطالة، هم يريدون اتحادا قويا، يمكن فرنسا من العودة قوية اقتصاديا داخليا، وإقليميا عبر شراكة مع ألمانيا تحفظ لها مكانتها كدولة مؤسسة للاتحاد وليست تابعة لألمانيا، ومن ثم دوليا في دور جديد لفرنسا في العالم وهو ما يمكن ملاحظته في نشاط الرئيس الفرنسي في الأزمة الخليجية الأخيرة، ولعب دور وساطة تحافظ على مصالح فرنسا، واستثماراتها في الخارج، وتجلب لها استثمارات داخلية، وفق برنامج إصلاحي على كل المستويات، يلزمه فقط أغلبية برلمانية تتبنى تشريعات لا تعيق تنفيذ الرؤى المطروحة، على المستويين المحلي والإقليمي عبر إعادة هيكلة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته بما يخدم المصالح الفرنسية.* باحث في الشؤون الأوروبية