×
محافظة المنطقة الشرقية

هلاك انتحاري بتفجير نفسه في مكة المكرمة

صورة الخبر

كان فيلم المخرج الفرنسي هنري - جورج كلوزو العائد الى العام 1953 واحداً من أبرز الأفلام التي استعيد عرضها في نسخة جديدة مرممة ضمن إطار عروض «كلاسيكيات كان» خلال الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي. والحقيقة أن هذا العرض أتى ليعيد الى الواجهة واحداً من أكثر الأفلام كلاسيكية وطموحاً في تاريخ السينما الفرنسية. بل ربما كان واحداً من الأفلام الفرنسية القليلة التي أبدى سينمائيو ونقاد ما سُمّي حينه بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية قدراً كبيراً من الاحترام والتقدير تجاهها، هم الذين قامت حركتهم أصلاً على نسف ما كانت تتسم به السينما الفرنسية من قبلهم موجهين سهامهم الى حوالى دزينة من مخرجين فرنسيين ظهروا خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها ليقدموا سينما وصفت بالسيكولوجية وسينما الصالونات. في اختصار، كانت معركة أصحاب الموجة الجديدة معركة ضد «النوعية الفرنسية»، لكنهم استثنوا كلوزو من دون أن يعتبروه واحداً منهم أو حتى سلفاً لهم. وربما لعب «ثمن الخوف» الدور الأساسي في ذلك الاستثناء. مهما يكن، فإن مهرجانين كبيرين في ذلك الحين سبقا أهل الموجة الجديدة الى تقدير كلوزو وفيلمه: مهرجان كان الذي أعطاه جائزته العالمية الكبرى وجائزة التمثيل (الى شارل فانيل)، ومهرجان برلين الذي منحه جائزة الدب الذهبي في العام 1953 نفسه. وكان ذلك حدثاً كبيراً بالطبع. ولكن كان حدثاً كبيراً أيضاً موقف زعيم الموجة الجديدة، التي ستبرز بعد سنوات قليلة، الناقد آندريه بازان الذي كتب كثيراً حول صدقية الفيلم وديناميته وفكرانيته ما يجعل كثراً اليوم يعتقدون أن هذا الفيلم كان واحداً من الأعمال المؤسسة للموجة الجديدة. > ومع هذا، على رغم موقف بازان، لا بد من القول منذ البداية إن كل شيء في «ثمن الخوف» مزيف، من جغرافية المكان الى لغة الحوارات الى الموضوع تفسه. فإذا كانت رواية جورج آرنو، التي اقتبس كلوزو الفيلم منها، تدور في منطقة حارة وضائعة في مكان ما في أميركا الوسطى - في الإكوادور تحديداً - فإن كلوزو صوّر الفيلم بأكمله في منطقة تقع في الجنوب الغربي الفرنسي تكاد بمناخها ومناظرها الطبيعية تكون صحراوية وتعبق برائحة النفط والمغامرة والأمزجة السيئة . لم يصور كلوزو ولا لقطة واحدة في المكان الذي يفترض أن الحوادث تجرى فيه. والى ذلك سوف يقال لاحقاً، حتى ان الحوادث التي بنيت عليها الرواية أصلاً غير منطقية. ومع هذا عبق الفيلم، كما الرواية من قبله، بسحر خاص قد يصحّ القول انه يدين بالكثير الى الكاتب الإنكليزي البولندي الأصل جوزف كونراد الذي من المؤكد ان كاتب الرواية إنما شاء محاكاته وعلى الأقل بالنسبة الى «دراما الإخفاق» وبالنسبة الى رسم الأهواء والعلاقات والخيانات وسلوك دروب الأخطار بالنسبة الى أفراد ضائعين ليس في المكان وحده بل في الزمان أيضاً. والحال أن واحدة من السمات الرئيسة التي طبعت هذا الفيلم وأعطته قوته كمنت في تلك التوليفة التي عرف كلوزو كيف يرسمها بين نمط سينما المغامرات الأميركي، وسيكولوجية الإخفاق التي كانت تهيمن على السينما الأوروبية في ذلك الحين. > تدور حكاية «ثمن الخوف» من حول مغامرة حياتية بالغة القسوة. ففي تلك المنطقة من أميركا الوسطى حيث تجعل الظروف المناخية والجغرافية من العيش نفسه مغامرة مستحيلة، هناك اقتصاد يقوم على استخراج النفط يجعل من محاولة العيش أمراً ممكناً فقط لأفاقين مغامرين يتطلعون الى العمل ردحاً يجمعون خلاله مالاً يمكنهم من الرحيل والعيش بأمان لاحقاً. هناك في بئر نفطي يخص شركة أميركية شمالية يحدث ذات يوم، وسط لهيب المناخ الحارق، أن يشب حريق في البئر. ويتبين أن ما من وسيلة للتغلب على الحريق باستثناء نسف البئر بواسطة مئات الكيلوغرامات من مواد متفجرة يجب نقلها في شاحنتين كبيرتين تعبران بها مئات الكيلومترات في طرق متعرجة ضيقة خطرة. كان من الواضح ان أي مسار خطأ لأية شاحنة سيؤدي الى انفجارها. ومن هنا يتطلب الأمر العثور على فريقي سائقين يقبلون بنقل المتفجرات مقابل ألفي دولار لكل فرد. ويتمكن مدير الشركة الأميركية من العثور على المغامرين الأربعة في صفوف أفاقين يعيشون في بلدة لاس بيدراس القريبة من موقع البئر. ثمة بين الأربعة فرنسيان وإيطالي وألماني، كل منهم يتطلع للحصول على الألفي دولار. لكن الثمن يبدو منذ البداية باهظاً: إنه وكما يقول شارل فانيل (جو في الفيلم) ثمن الخوف الذي نعيشه طوال تلك الرحلة المزروعة بالموت. > مزروعة بالموت ولكن ليس بالمعنى الرمزي للكلمة. بل بالمعنى الحقيقي. وذلك لأن الموت سيبقى طوال الرحلة ماثلاً أمامهم عند كل منعطف وحفرة في الطريق المستحيلة التي تمثل ألم الحياة ودرب الجلجلة الخاصة بكل واحد منهم، وموقظ تاريخهم وإخفاقاتهم في حياتهم. لكن ذلك الموت لن يترصدهم فقط، بل سوف يلتهمهم واحداً بعد الآخر طوال ذلك المسار العبثي الذي يخوضون فيه من أجل الدولارات الألفين، عابرين - أو محاولين عبور - الخمسمئة كيلومتر التي تفصل بين نقطة تحميل المتفجرات ونقطة إيصالها. > إن كل شيء طوال تلك الرحلة يشتغل ضد أولئك الأفراد: الطبيعة والخطر الذي لا يغيب لحظة، أمزجتهم السيئة والمتنافرة. كل هذا يفرق بينهم، لكن ما يجمع بينهم ليس سوى الفقر الذي يدفعهم الى مواصلة الرحلة. الفقر الذي إذ كان دفعهم أول الأمر الى ركوب المغامرة وهم يعرفون ما قد تسفر عنه نهايتها، سوف يدفعهم الى مواصلة الرحلة حتى بعدما يتساقط أولهم ثم الثاني والجميع بعد ذلك تباعاً... لكن الفيلم كما حققه كلوزو، لم يحمل قوته في رسالته الاجتماعية حتى وإن كانت واضحة منذ البداية، ولا في الإدانة التي قد تبدو من خلال حوادثه وحواراته، موجهة - وبشكل مبكر بالتأكيد في ذلك الحين - الى الاحتكارات النفطية والظروف الاستعمارية اللاإنسانية التي تتمثل في سيطرة أميركا الشمالية على العالم في ذلك الحين. فكل هذا موجود بالطبع بل يبدو صارخاً أحياناً. وكذلك الأمر بالنسبة الى سيزيفية الحكاية نفسها حيث يكمن الفشل وحتمية البدء دائماً من جديد في كل لحظة وفي كل مشهد. المهم هنا هو تلك «السينمائية» التي تجلت بأبهى صورها في فيلم وضع فيه كلوزو كل تجربته السينمائية الغنية السابقة، ناهيك بوضعه كل تلك المرارة التي كان يعيشها في ذلك الحين. > فحين حقق كلوزو «ثمن الخوف»، كان يعتبر واحداً من أكثر السينمائيين الفرنسيين قدرة على استخدام اللغة السينمائية لتقديم حكايات بالغة القسوة والتشعب وتتطلب عادة أداءات تمثيلية استثنائية. وكان هذا دأبه على أي حال منذ «القاتل يقيم في الرقم21» (1942) الذي عرّف عالم السينما عليه وعلى ما سوف يسمى لاحقاً «هتشكوكيته الجدلية». وهو حقق بعد ذلك الفيلم وفي عز الاحتلال النازي لفرنسا، في العام 1943 فيلم «الغراب» الذي ربما لم يصور سينمائي فرنسي مزامن له أي موضوع يفوقه سواداً ويكشف عن أخلاقيات فرنسية مظلمة. وفي العام 1947 حقق «رصيف الجوهرجية» البوليسي في وقت كانت عيون الغضب الفرنسي الوطني مشرعة عليه متهمة إياه بـ «التواطؤ» مع المحتل النازي خلال الحرب. ومن هنا اتسمت أفلام كلوزو التالية بقدر كبير من المرارة في ظل تنوع في المواضيع. وكان من بين أفلامه التالية «مانون» (1949) و «الجهنميات» عن رواية لبوالو - نارسيجاك، و «الجواسيس» في العام 1957 قبل أن يحقق واحداً من أكثر أفلام بريجيت باردو جدية، الحقيقة» في العام 1960 ويختم مساره بفيلم «الأسيرة» في العام 1968 قبل ان يقوم بمحاولة سينمائية جدية أخيرة تمثلت في فيلم «الجحيم» الذي لم يكتمل أبداً على رغم انه كان من شأنه لو اكتمل أن يكون أشبه بوصية أخيرة لسينمائي كبير قضت عليه مجموعة طموحات ربما كانت أكبر مما كانت عليه سينما بلاده في ذلك الحين، وتطلعات ثقافية ربما كانت علامتها الأساسية ذلك الفيلم الكبير والغريب الذي حققه عن الفنان بيكاسو مصوراً إياه وهو يحقق بعض رسومه في تواطؤ سينمائي تمثل في جعل الفنان يرسم على لوحات زجاجية مصورا ًإياه بطريقة مبتكرة عبر شفافية الزجاج. وكان عنوان الفيلم يومها «سرّ بيكاسو» (1956) لكن كثراً أسموه «سرّ كلوزو».