تعتمد موسكو على معارضة زائفة وتلفزيون حكومي مسخر لصالح الكرملين * يبدو أن المتظاهرين الروس ليسوا مستعدين للانتظار حتى 2024، حتى يروا تغييراً حقيقياً في النظام في روسيا. وتدل جميع المؤشرات على احتمالية استمرار هذه الاحتجاجات المناهضة للفساد. فلادلفيا (الولايات المتحدة): مايا أوتاراشفيلي حتى وقت قريب، كان المواطنون الروس من الشباب يُعرفون بتأييدهم لفلاديمير بوتين وبعدم اهتمامهم بالسياسة. يبدو أن تلك الصورة تتغير الآن في ضوء الحركات الاحتجاجية الأخيرة المعارضة للفساد في روسيا، وإن كان التغيير بطيئاً. قال فلاديمير بوتين: «لا أمر بأيام سيئة، فلست امرأة»، رداً على سؤال مخرج هوليوود أوليفر ستون في لقاء معه عما إذا كان «يفقد أعصابه» في بعض الأحيان بعد مروره بيوم سيئ. قد لا يعترف بوتين بالأمر، ولكن تسبب زعيم معارضة روسي، هو أليكسي نافالني وأنصاره الشباب في إفساد أكثر من مجرد يوم واحد للرئيس الروسي أخيرا. يتضح ذلك من الاعتقالات المتكررة للسياسي الشاب المثير للجدل. في شهر مارس (آذار) الماضي، انتهت مظاهرات ضد الفساد نظمها نافالني بالقبض على ما يزيد على ألف متظاهر من ضمنهم نافالني نفسه. وتم الإفراج عنه في 15 أبريل (نيسان). وقبل مرور شهرين على الإفراج عنه، نظَّم نافالني مظاهرة أخرى في موسكو في 12 يونيو (حزيران)، والتي استمرت لمدة ساعتين قبل أن تلقي الشرطة القبض على نحو 1500 شخص، ليُلقى بنافالني في السجن مرة أخرى. والآن في آخر مظاهرة ضد الفساد، تم اعتقال نافالني بينما كان يغادر منزله في الصباح متجهاً لقيادة المظاهرات. ونقلت زوجته في منشور على «تويتر» رسالة نافالني إلى المتظاهرين: «تم القبض على أليكسي في مدخل منزله، وطلب مني الإبلاغ بأن الخطط لم تتغير: (شارع) تفرسكايا». ومن المتوقع أن يقضي نافالني 15 يوماً أخرى في السجن.كان السبب في موجة الاحتجاجات المعارضة للفساد، كتلك التي خرجت في مارس، هو فيلم وثائقي لنافالني صدر أخيرا ليكشف عن الفساد داخل الحكومة الروسية ودائرة المقربين من بوتين. استهدف هذا الفيلم الوثائقي تحديدا رئيس الوزراء ميدفيديف في الأساس، إذ كشف عن ثروته الطائلة وسخر منها. في كلتا المظاهرتين، كان المحتجون يلقون بدمى على شكل بطة صفراء، في إشارة رمزية إلى منزل فخم يملكه ميدفيديف الذي يُزعم تخصيصه لتربية البط.حركة صغيرة وتوجهات جديدة كبيرة على الرغم من الحماس المحيط بالاحتجاجات، من المهم أن نضع هذه الأحداث ضمن إطار أكبر من بيانات الرأي العام الروسي الحالية. أظهر استطلاع رأي أجراه مركز ليفادا في شهر مايو (أيار) أنه إذا تم إجراء الانتخابات في ذلك الوقت بدلا من 2018، فسوف يُصَوِّت 63 في المائة من الروس لصالح بوتين، بينما سيعطي اثنان في المائة فقط أصواتهم لنافالني. علاوة على ذلك، تظل معدلات شعبية الرئيس بوتين مستقرة فوق 80 في المائة بقليل. فلماذا أصيب الكرملين بالانزعاج البالغ من هذه المظاهرات لدرجة أن يلقي القبض على مئات المتظاهرين؟ هناك عاملان مهمان يجعلان هذه المظاهرات المعارضة للفساد فريدة من نوعها: أولا، أن الحركة على عكس السابق منتشرة في جميع أنحاء روسيا. فقد خرجت مظاهرات في نحو 150 مدينة حول البلاد، وانتشرت إلى مناطق تسكن بها قاعدة أنصار بوتين. ثانيا، أنصار نافالني في الغالب من الشباب الصغار، ووفقا لتقارير الاعتقالات، تبلغ أعمار 136 من بين أكثر من 800 شخص معتقل في مارس 18 عاما أو أقل. ووفقا لبيانات نشرتها «ذا إيكونومست»، ينضم إلى حركة نافالني 120 ألف متطوع في روسيا. وخرج 150 ألف شخص أثناء مظاهرات يونيو (حزيران)، وشارك 100 ألف شخص في مظاهرات مارس. وأفادت تقارير أن نحو نصف المتظاهرين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما. ولكن الشباب الروسي ومشاركتهم المدنية أكثر تعقيداً بكثير. على الأقل حتى هذه المرحلة، يمكن أن يوصف الشباب الروسي بأنه إما غير مهتم سياسيا أو مؤيد لبوتين. وتكشف استطلاعات الرأي العام أن نحو ثلث الشباب الروسي مهتم بالسياسة: ففي الفئة العمرية بين 18 و22 عاما، تصل نسبة غير المهتمين بالسياسة إلى 64 في المائة. ومن الروس الذين تتراوح أعمارهم ما بين 28 و30، نحو 55 في المائة لا يتابعون السياسة. كذلك لا يتجاوز الاستعداد للتظاهر بين الشباب الروس ككل نسبة 10 في المائة في الوقت الراهن. وتكشف اتجاهات التصويت أن الشباب الروسي لا يدلون بأصواتهم أيضا. وفي الانتخابات البرلمانية التي أجريت في عام 2016، أدلى 30 في المائة من أصغر فئة عمرية بأصواتهم، وعددهم منخفض للغاية مقارنة بإجمالي نسبة مشاركة الناخبين من عموم السكان والتي تبلغ 50 في المائة، في مقابل 70 في المائة من أكبر فئة عمرية.تحدٍ جديد أمام الكرملين تدعم هذه الإحصائيات ادعاءات المدافعين عن الكرملين بأن الشباب في هذه السن لا يملك قيمة حاسمة في ما يتعلق بقوى المعارضة الروسية. ويدفع هذا الرأي الشائع بأن الشباب يؤيدون الحكومة، ليس بفضل الدعاية الحكومية، ولكن لأن لديهم أسبابا أقل للتشكيك في الوضع الراهن. من المفترض أن ينتمي الغاضبون في روسيا إلى فئتين مختلفتين: الأشد فقرا (الذين لم يكسبوا أي شيء)، والأكثر معرفة (الذين يعرفون ويفهمون كل شيء). ومن المفترض أن تتجاوز هاتان الفئتان التصنيف العمري. ومع ذلك، تكشف الاحتجاجات الأخيرة المعارضة للفساد أن هذه التوجهات قد تتغير، إذ أصبح قطاع معين من الشباب الروسي أكثر انخراطا في النشاط السياسي. وبدأ رأي شعبي جديد عن الشباب الروسي في الانتشار، وهو أن «نظام (بوتين) يعتمد على حائطي دفاع: معارضة زائفة لتضفي شرعية على العملية السياسية، وتلفزيون حكومي لتغيير الأخبار لصالح الكرملين. ولكن بدأ كلاهما في التداعي مع مرور الوقت، كما كشف نافالني في الربيع الماضي». يقال إن دور الأخير (التلفزيون الحكومي)، من العناصر الحاسمة في زيادة أعداد المحتجين الشباب، حيث لا يشاهد الشباب الروسي التلفزيون كما يفعل آباؤهم، ويمضون وقتا أكبر على شبكة الإنترنت، حيث لا ينتقي الإعلام الحكومي الروسي كل المعلومات التي تنشر عبرها، وبالتالي يزداد توجه الشباب الروسي إلى المعارضة. ليس من الواضح كيف ستتطور هذه الحركة المعارضة الشبابية، فلا يزال الوقت مبكرا للغاية. بيد أن الكرملين يبدو منزعجا ويرد على ذلك بقوة ومعلومات مغلوطة. وإلى جانب الاعتقالات، أطلق الكرملين دعاية معارضة لنافالني تشبهه بهتلر. ويقول المدافعون عن الكرملين إن الغرب هو الذي يُعطي لحركات معارضة الفساد أهمية أكبر من حجمها. على سبيل المثال، انتقد مقال نشر أخيرا في «روسيا اليوم» تغطية الإعلام الغربي للمظاهرات، مدعيا أن «هناك روسياتان. روسيا التي يعيش بها نحو 145 مليون شخص، وأخرى تظهر في الصحافة الناطقة بالإنجليزية. ولكن نادراً ما كان الفارق بين المبالغات والواقع شاسعا كما نراه اليوم في تغطية الحشود التي خرجت هذا الأسبوع. ناهيك بتصدر الدعاية التي مُنحت لمُنظمها باستمرار». قد يكون هذا التحليل صحيحا بوجه ما، وربما هناك بالفعل روسياتان، ولكن ليس لأن هناك واحدة حقيقة وأخرى مختلقة من خيال الغرب، بل لأن هناك روسيا مؤيدة لنظام بوتين، وأخرى تزداد معارضتها له. في كل مرة يُعلق الرئيس بوتين على التطورات في الداخل والخارج، يظهر مفهوم الحقائق البديلة (عندما يتم تناول الشؤون الدولية) أو في هذه الحالة روسياتين. بعد تجاهل حركة المظاهرات في أغلبها، صرح بوتين للصحافة بأن المظاهرات حملة دعائية تسبق الانتخابات وليست أكثر من ذلك (حيث يقترب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الروسية عام 2018، ومن المرجح للغاية أن يترشح كل من نافالني وبوتين على منصب الرئيس). «أنا مستعد للتعاون مع أي شخص مهتم بصدق بجعل حياة الناس أفضل، وبحل المشكلات الملحة التي تواجهها بلادنا، وليس باستخدام تلك القضايا لشن حملة دعائية سياسية لصالحهم… تجنبوا الاستفادة من المشكلات، وقدموا حلولا. يمكن أن يتوقع من يستحقون الاهتمام إقامة حوار صادق مع السلطات. تلك هي الطريقة التي نتعامل بها». لم يرغب بوتين في ذكر نافالني بالاسم، ولكن كان تصريحه بالتأكيد موجهاً له.«الأفراح الطاغية (قد يكون) لها نهايات طاغية» بعد احتجاجات مارس، قدم عباس غالياموف المحلل السياسي الروسي البارز وكاتب خطابات بوتين سابقا بعض النصائح لحركة المعارضة الشبابية. قال غالياموف إن هذه الحركة من أجل التغيير أشبه بماراثون، وليست عدْواً لمسافة قصيرة، وبالتالي يجب أن يتعامل معها المحتجون على أنها مشروع طويل الأجل: أي أنها يجب أن تركز على تغيير تدريجي للثقافة. علاوة على ذلك، نصح غالياموف نافالني وأنصاره باستهداف النظام وخبثه بصفته عدوهم، وألا يركزوا على قادة منفردين مثل بوتين وميدفيديف بصفتهم جناة. بتلك الطريقة، على الأرجح ستستجيب النخب الحالية لهذا التغيير في النهاية، بل وستساعد على تيسيره. «إذا استطاعوا تحمل النظام حتى عام 2024، فلن تكون هناك حاجة إلى ثورة: فأيا كان الشخص الذي سيخلف بوتين، سيبدأ في إصلاحات ديمقراطية. ولكن حتى يحدث ذلك، يجب أن ينزعوا الثقة بفاعلية ليس عن بوتين أو ميدفيديف بشخصيهما، ولكن عن سمات النظام: تحديدا ممارسات الحكومة الاستبدادية التي تستتر خلف صورة أفكار الأصالة، و(القبضة الحديدية)، والطرق الدموية في السياسة، وأسلوب كراهية عام تجاه بقية العالم ككل». ولكن الصبر ودعم النهج التدريجي ليسا من سمات الشباب المعتادة في أي مكان في العالم، ويبدو أن المتظاهرين الروس ليسوا مستعدين للانتظار حتى 2024، كما يشير غالياموف، حتى يروا تغييرا حقيقيا في النظام في روسيا. وتدل جميع المؤشرات على احتمالية استمرار هذه الاحتجاجات المناهضة للفساد. حتى الآن لم يتعامل الكرملين بصرامة في معاقبته للحركة التي يقودها نافالني. ولا يعد قضاء 15 يوما في السجن، مع بعض الدفع والصد «الخفيف» للمتظاهرين شيئا بالمقارنة مع العنف الوحشي الذي كان على الحركات المعارضة للكرملين مواجهته في الماضي. من المهم أن نضع في الاعتبار أن بوريس نيمتسوف أبرز منافسي بوتين الجديرين بالثقة قُتل في موسكو في عام 2015. ولا يزال مقتله يكتنفه الغموض ومن المعتقد أنه تم بأوامر من الكرملين. ويعد نيمتسوف واحداً من عشرات من معارضي بوتين الذين لقوا حتفهم في «طريق القتلى الروس». في حين يستعد الكرملين للانتخابات الرئاسية لعام 2018، ربما لا يرغب في المخاطرة بالسماح لحركة الاحتجاج المعارضة للفساد بالازدياد. وفي كل مرة تندلع فيها انتفاضات في منطقة أوراسيا، يبدأ الكرملين في شعور متزايد بجنون العظمة، ويشير إلى الغرب مدعياً أن الأوروبيين والأميركيين يتدخلون لتغيير النظام في مناطق مثل أوكرانيا عام 2014. وبدأ بوتين بالفعل في إلقاء اللوم على الغرب لتأييده لنافالني. وفي أثناء مؤتمر صحافي، قال لمراسل بريطاني سأله عن نافالني: «عندما علمت أنك من (بي بي سي)، لم أشك للحظة أنك ستسأل هذا السؤال تحديدا لأنه يقدم دعاية بطريقة معينة لأشخاص تدعمونهم». إذا بدأ بوتين يشعر بأنه مهدد حقاً، على الرغم من حجم «التهديد» الصغير نسبياً الذي تشكله هذه المظاهرات على حكمه، ويقرر أن الغرب يقف خلف هذه الحركات، فقد تكون هناك نهاية عنيفة لهذه القصة.