×
محافظة حائل

السعودية للكهرباء توقع 4 عقود بقيمة تجاوزت 1.5 مليار ريال

صورة الخبر

«إلى حد كبير، كان ترنر رسام السموّ، والسموّ في زمنه كان يعني التزام المرء بالجمال والرعب إزاء الطبيعة: بل بالأحرى الرعب في الجمال والجمال في رعب الطبيعة. والحال ان هذا ما كان ترنر يحاول أن يرسمه»، بهذه العبارات عبّر الممثل تيموثي سبال عن فهمه لشخصية الرسام الانطباعي الإنكليزي ويليام ترنر، وهي الشخصية التي لعبها في فيلم «مستر ترنر» المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي. والحال أن من يعرف شيئاً عن أسلوب مايك لي في صوغ سيناريوات أفلامه وإدارة ممثليه، سينظر بعين الاهتمام الفائق الى ما يقوله سبال عن الشخصية. وذلك ببساطة لأن الممثل لدى لي ليس مجرد مؤدّ للدور، بل هو مشارك في رسمه ومشارك في صوغ حواراته. فللارتجال المعتمد على إبداع الممثل نفسه، دور كبير عادة في سينما هذا المبدع الإنكليزي. ولئن كان في إمكان القارئ العربي الذي قد يهمّه معرفة الكثير عن مايك لي وسينماه، أن يقرأ ترجمة عربية جيدة لكتاب حوارات معه صدر عن مؤسسة السينما السورية في سلسلتها «الفن السابع» قبل شهور (!)، فإن الطريقة الأفضل والأسلم للوصول الى تلك المعرفة، ستكون دائماً في مشاهدة أفلام الرجل التي أتى «مستر ترنر» تتويجاً لها.   إضافة الى سينما خاصة ومنذ الآن لا بد من القول ان هذا الفيلم، إضافة الى المكانة الأساسية التي بدأ يتخذها في فيلموغرافيا مايك لي – راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -، بدأ يشغل كذلك مكانة أساسية بين عدد لا بأس به من أفلام كرسها الفن السابع للحديث عن سير بعض كبار «نجوم» الفن التشكيلي على مدى تاريخ هذا الفن، الى جانب تحف حُققت عن حياة فان غوغ (فيلم الفرنسي الراحل موريس بيالا الحامل اسم الفنان والذي صار مرجعاً اساسياً في هذا السياق، أو فيلم فنتشنتي مينيللي «الظمأ الى العيش» الذي قام فيه كيرك دوغلاس بدور فان غوغ)، أو ماكايل آنجلو أو فيرمير («الفتاة ذات اللؤلؤة» من تمثيل سكارليت جوهانسون) أو غوستاف كليمت أو حتى «كارافاجيو» من إخراج ديريك جيرمان الذي اعتبر الفيلم عن الرسام «الضال» وصيته الفنية والإنسانية. بالتأكيد، ينخرط فيلم مايك لي عن ترنر في هذا السياق... لكنه بالتأكيد يبدو الأكثر كلاسيكية وفرادة لمن يشاهده غير مرة، ويكتشف - خلف سحر تصوير المشاهد الطبيعية ورسم الصورة الاجتماعية والفنية كما تعبر عن الفئات الرفيعة المقام في انكلترا النصف الأول من القرن التاسع عشر -، الشخصية المقدَّمة لرسام كان غالباً ما يبدو مختفياً خلف لوحاته التي من المعروف ان الإنكليز يحبونها ويقدّرونها أكثر من لوحات اي فنان آخر من أبناء زمنه. فهنا، في هذا الفيلم، نكتشف الإنسان خلف الفنان. ولعل اولى آيات هذا الاكتشاف ترجيح المخرج كفة تصوير بطله على كفة تصوير لوحاته. صحيح اننا نشاهد اللوحات ونتابع تاريخ رسم ترنر لبعضها وبيعه وعرضه بعضها الآخر... لكن هذا يأتي دائماً في المقام الثاني. الأولوية هنا لترنر نفسه. وبالأحرى لترنر خلال النصف الثاني من حياته التي كانت قصيرة على اية حال. فالفيلم يقدم لنا خمسة وعشرين عاماً تبدأ من عودة ترنر من تجواله الاشهر في الشمال الأوروبي وإقامته بعض الوقت في الفلاندر ومناطق بلجيكا حيث اطلع مباشرة على ابداعات فناني الشمال الأوروبي، قبل ان يعود – أول الفيلم – الى بيته اللندني الذي يعيش فيه مع والده الحلاق السابق في «كوفنت غاردن» وخادمة عجوز مشوهة سرعان ما نكتشف انها تتحول الى عشيقة له بين الحين والآخر. لكنها ليست العشيقة الوحيدة... بل هي الأقل شأناً بينهن. ومنهن واحدة أنجبت له ابنتين بالكاد يعترف بها وبهما... ويعاملهن حين تزرنه كضيفات ثقيلات عليه. وليس هذا لأنه يفضل عليهن أُخريات، بل لأنه رجل لا يريد من العالم إلا حرية ووقتاً يمكّنانه من أن يرسم. وهو بالفعل يرسم بشغف ونهم، ولكن أيضاً باستعلاء على زملائه الذين يلتقيهم في معرض الأكاديمية الملكية... وفي المقابل نجده بالكاد يهتم برأي الناقد الشاب جون راسكين الذي سيكون مع هذا من أكبر داعميه... ولعل ما تجدر ملاحظته قبل اي شيء آخر هنا، هو ان كل ما يعيشه ترنر ويعايشه في الفيلم إنما ينطبع على ملامح وجهه ونمط عيشه وعلاقاته المركبة مع الآخرين بأكثر حتى مما ينطبع على لوحاته. فالأساس في حياة ترنر هو لوحاته وحريته وتمكنه الدائم من التجوال في لندن الحضيض، بحثاً عن مواضيعه. ثم في الجنوب الشرقي الإنكليزي بحثاً عن الشمس والريح ومشاهد البحر والسفن التي ستخلده ويخلدها. وهو في بحثه هذا، يبدو دائماً نهماً الى النور والدفء ولا سيما حين يلتقي بتلك السيدة التي ستصبح عشيقة جديدة له بعد ان ترمّلت مرتين وجمعت من الثروة ما سيمكنه من العيش وشراء الألوان هو الذي قدّم لها نفسه أول الأمر باسم مستعار بعدما أجّرته غرفة مشمسة في نزل تملكه التجأ اليه كي يرسم بعيداً من صخب الحياة اللندنية القاتل...   من انكلترا إلى أخرى من الواضح ان رسم شخصية ترنر في الفيلم هو العنصر الأساس فيه، ومن الواضح ان الذين سيذكرون الرسام ويشاهدون لوحاته من الآن وصاعداً، لن يكون في وسعهم أن يتخيلوه على صورة أخرى غير الصورة التي قدمه بها فيلم مايك لي وأداء تيموثي سبال، ومع هذا لا بد من القول إن خارج إطار شخصية الرسام وأعماله، تمكن «مستر ترنر» من ان يرسم، وإن في طريقه، صورة مدهشة للحياة اليومية في لندن الشعبية حيث البائسون والمشوهون وسكان الأحياء الفقيرة يضعونك مباشرة في مناخ بصري جدير بأقوى روايات تشارلز ديكنز... كما تمكن ايضاً من ان يرسم، وإن في طريقه أيضاً، صورة مدهشة لإنكلترا الأخرى، إنكلترا عليّة القوم والقصور وفناني السلطة ونقاد الأكاديمية الملكية، وبعد ذلك، تالياً لهذا كله ينتقل الفيلم الى تصوير إنكلترا ثالثة هي تلك التي تقع خارج لندن وتعيش رتابة حياتها اليومية تحت شمس ساطعة وفي جوار بحر تتدفق أمواجه في حركة صاخبة، سيكون ويليام ترنر بالتأكيد خير راسميها وأبرع المعبّرين عنها في تلك اللوحات الخالدة التي نعايشه وهو حيناً يرسم «اسكتشاتها» ليحولها لاحقاً لوحات ضخمة تعلق في المعارض، وحيناً يستخدم بصاقه بلا مبالاة كلية وهو يصحح ألوانها حتى اللحظات الأخيرة قبل العرض. والحال ان هذا كله يضعنا امام فيلم شديد الحداثة على رغم كلاسيكيته، عن فنان كان بدوره شديد الحداثة. وفي هذا السياق، يبدو ذا دلالة بالتأكيد المشهد الذي يكتشف فيه ترنر بما يشبه الصدفة، بدايات التصوير الفوتوغرافي كممر الى حداثة الأزمان المقبلة متسائلاً في طريقه، كما سيفعل والتر بنجامين بعده بقرن وإن في سياق آخر، عن مصير اللوحة في الزمن الفوتوغرافي المقبل. من كل هذا، وأكثر، «ركّب» مايك لي فيلمه الجديد هذا، الفيلم الذي ما إن عرض خلال الأيام الأولى للدورة الأخيرة لمهرجان «كان» حتى حقق ما يشبه إجماعاً لدى النقاد والمهتمين، إجماعاً لم تصل مفاعيله الى لجنة التحكيم التي وصلتها على اية حال روعة الأداء الذي قدمه ممثل الدور فيه. ومهما يكن من أمر، لا شك في ان «مستر ترنر» بات منذ الآن علامة اساسية من علامات سينما السيرة والسينما التي تتخذ من الفن نفسه موضوعاً لها. سينمامستر ترنر