تستغرقنا أكثر الاوقات متابعة ما يحدث من مآس في عالمنا العربي المنكوب، بينما يبقى ما يحدث في عالم اليوم من سباق علمي وتقني، في خلفية المشهد، إذا لم يكن محجوبا عن المشهد بكليته. أن يُحمل سبعون مصليا جثثا من جامع ذهبوا لأداء الصلاة فيه، أو أن تفجر حسينية بمن فيها، أو تنال شاحنة مفخخة سوقا للعتالين.. فاعلم انك في احدى مدن العراق.. أما أن تتساقط البراميل المتفجرة على رؤوس انهكها التعب والجوع وهي تستضيء بشمعة يائسة لتحيل بنايات كاملة لركام.. وتحت هذا الركام تتمزق جثثت الاطفال والامهات والاباء.. فأعلم انك في احدى مدن الرفض السورية.. أن تفجر الطائرات المدنية وهي رابضة على ارض المطار ويتقاتل الثوار بكل ما لديهم من عتاد، وأن تحال بلادا لم تستيقظ بعد من فواجع رحيل الديكتاتور وتاريخه الاسود فاعلم أنك في ليبيا.. أن تتفحم الجثث وتحمل لمأواها الأخير دون ان تعرف لها هوية.. فاعلم أنك في بلاد لا تكترث بالإنسان حيا أو ميتا. أن ترى رؤوسا تجز، وجماجم تثقب بالمثقاب الكهربائي، ونساء تغتصب بالمئات.. والحرب الوحشية تلقي بظلالها على نفوس لا تتورع عن الدم ولا تبتهج الا بالدم ولا ترقص إلا على اشلاء الضحايا وهي تفتري على الله .. فاعلم انك تواجه كابوسا حقيقيا وليس مناما قاسيا او احلاما بشعة. وانك في بلاد العرب والمسلمين.. الذين بعث الله لهم الاسلام رحمة، فإذا هو على ايديهم يتحول الى عذاب وقهر وسبي وقتل، ويسرق الاحلام من عيون تتفتح على مجازر ومخاز وانتهاكات فلا ترى عالما لها سوى الانخراط في الحروب البشعة، فإن تموت قاتلا او انتحاريا او ناحرا للأعناق.. خيرا من ان تموت مقتولا ولم تتلوث يداك بدم حرام!!؟ أليس هذا عالمنا العربي الفاجع والمفجوع اليوم. ألسنا عناوين الاخبار ونشرات جز الاعناق واخبار القتل وذبح المصلين وانتهاك الاعراض وتدمير البنايات بالبراميل المتفجرة على رؤوس ساكنيها حتى لم يبق حجر على حجر. أما من يرى اليوم ان داعش وسواها من المنظمات البالغة التطرف، هي السبب والكارثة، فهو قد يجهل او يتجاهل كونها نتيجة كما انها سبب اليوم.. فأسباب ما جرى انتج داعش واسباب داعش ستنتج ما يليها من نتائج قد تكون اكثر مرارة وقسوة وايلاما. لا يقوى أمر هذه الجماعات المتوحشة باسم الاسلام حتى تقدم على هذا التجاوز الذي جعلنا بؤرة القلق في العالم كله.. إلا عبر قوتين: قوة التمويل، وقوة الايديولوجيا. في مسألة التمويل، تبرع القوى المتصارعة في الخفاء على تمويل وامداد القوى التي تراها تحقق بعض اهدافها او جزء منها. إنها مجرد ادوات في الصراع على النفوذ والمصالح والمكاسب. إلا ان العقيدة القتالية أو الايديولوجيا تلعب دورا حاسما في معركة الصراع.. وها هي داعش والقاعدة تمتح من جذور تتغذى من تراث نهل من الاسلام التاريخي وصنع له بيادق ورايات وعناوين وقراءات. قد يتراجع التمويل من الخارج، وقد يمكن تجفيفه، وإن كان لا يحسم قدرات هذه التنظيمات اذا ما كبرت وتقوت وصنعت لنفسها مصادر تمويل أخرى.. إلا أن الأفكار تبقى لب الصراع الأكثر أهمية اليوم. ومن يريد ان يعيد هذه الوحوش البشرية الى قمم التاريخ ويقفل عليها، أن يقدم فكرا اسلاميا مستنيرا، يمتح من معين كتاب الله وسنة نبيه الصحيحة التي لا تقرأ الموازين بعين المصالح الآنية أو الظروف المرحلية.. ولكن بعين الرحمة والغايات السامية التي ارتضاها لنا رب العباد. وكل ما عدا هذا قد يصبح ضجيجا عابرا، ومحاولات للتبرؤ لن تحسم هذه الظاهرة التي لا يرجى ان تتلاشى او تنسحب من المشهد إلا بعمل جبار وتنازلات كبرى واعادة صياغة فكر جيل جديد، وأؤكد على جيل جديد.. لا يفقد معنى وجوده الروحي، ولا يفقد كذلك امام موازين العدل والكرامة حقه بحياة انسانية كريمة. وداعش ليست وحدها المدانة.. بل ان الطائفية بشرورها وجذورها وجنونها تجعل كل الطائفيين شركاء في جريمة تدمير الانسان العربي. فالطائفية الشيعية التي تجسدها منظمات بشعة كعصائب الباطل او حزب الله الايراني اللبناني او طائفية نظام البراميل السوري.. فكلها تقف على قدم المساواة في درجة مسؤوليتها عما آلت إليه الاوضاع في المنطقة.. عندما حاولت ان تتنفس كرامة الحياة وئدت تحت ركام التناقضات الطائفية القاتلة. أما هذا الغرب، سواء كان بقوته القادرة اليوم كالولايات المتحدة الامريكية او شركائها البريطانيين والفرنسيين.. فهم شركاء في مأساة العرب.. ليس لانهم عملوا على تغيير موازين القوى في العراق ودفعوا بهذا الغول الطائفي فقط.. ولكن لأنهم منذ مطلع القرن الماضي خططوا لنسيج استيطاني في قلب فلسطين ودعموه بشكل منقطع النظير.. ومن يجادل في قضية فلسطين، ويحاول الفصل بينها وبين ما يحدث في العراق وبلاد الشام فهو واهم كبير. إنها القضية التي كانت ولا تزال في بؤرة وصلب صناعة المقاومة بكل انواعها.. وصولا إلى ظهور الجماعات الاسلامية الجهادية التي اختلط حابلها بنابلها.. ومن يقوى على تجاهل أكثر من ستين عاما من القتل والنفي والحصار والسجون والمعتقلات الاسرائيلية..؟ إلا أن ادانة الغرب في تعامله مع المنطقة منذ الحرب العالمية الاولى.. لا يمنع ان نرى التناقضات القاتلة بين عالمين. عالم الغرب، والشرق الاقصى الذي يجري بموازاته اليوم... مواطن العلم والبحث والتطوير، الذي يطالعنا كل يوم بنتائج علمية مذهلة.. وبين عالم داعش وعصائب الباطل وهي تستلهم من القرون الخوالي خطابها إلى جانب وسائل الرعب والقتل على الهوية المذهبية. إنه لشيء يدعو للتأمل.. فلا نصيب للعرب اليوم حتى الذين تعيش دولهم بعض الاستقرار او كله في نيل شهادة علم او نبل يصنع لعالمهم مستقبلا افضل.. انهم مشغولون بداعش وصراعاتها وعصائب الحق وابو الفضل العباس ونظام البراميل المتفجرة الذي لم يصنع في سورية سوى الموت والحسرات والتخلف الشامل الذريع. إنهم مشغولون في احراق ثرواتهم وتجهيل شعوبهم.. وتدمير ما تبقى من طاقاتهم بعد انطفاء قدراتهم على الخروج من شرنقة التخلف الذريع. هذا العالم يصنع الدواء ويطور زراعة الغذاء ويلاحق الامراض ويكشف اسرار الحياة ويعيد البسمة لوجوه عانت وتعاني مرارة الحرمان.. فلا تهدأ له وتيره ولا يتوقف انتاجه ولا يتراجع عن تطوير قدراته.. بينما نئن تحت وطأة تاريخ مثخن بالجراح والمرارات.. ونستعيده في حروب لا تبقى ولا تذر. عالم انشغل بتطور تقنية النانو وغيرها من التقنيات لتكون مفتاح الغد لصناعات كبيرة تطال الصحة والدواء والعلاج والامراض والمواد وكل ما يتصوره أو لا يتصوره عقل بشري. انه عالم تفصلنا عنه اليوم مسافات بعيدة.. إلا انه لم يصنع هذا إلا بالتواطؤ مع الانسان عندما حفظ له حقوقه واحترم مواهبه والتزم نظاما يكشف عيوبه ويعالج الخلل باستمرار في مساراته. عالم صنع لنا وسائل الاتصال المتطورة، فكان النجاح في استثمارها في تصوير الرؤوس المحزوزة ونشرها على اوسع نطاق، وعمليات الاعدام البشعة، وركام الموت القادم من كل مكان. ويظل الجدل من خلال تلك الوسائل والمواقع حول قرون بعيدة وخوارج مروا من هنا.. وصراع طائفي مرير بين مستخدمين.. لا هم لهم سوى الاستبسال في الاثخان التويتري. يا ترى ماذا صنع العرب بأنفسهم..؟ إن كبير أبالسة الجن لو قدر له ان يخطط لمأزقهم الراهن لربما اعجزته الحيلة.. ولكن أبالسة بعض البشر أشد وطأة وأكثر فجورا.