يشير كثر إلى كون «حياة الصبايا والنساء» هي الرواية الوحيدة للكندية أليس مونرو التي قدمت إبداعها الأدبي في ثوب القصة القصيرة، وحصلت بهذه الصفة - أي كقاصّة - على جائزة نوبل للأدب العام الماضي، فهل هذا صحيح؟ ربما أدخلت مونرو القراء في حيرة نتيجة محاولة تصنيف كتاباتها ضمن أنماط أو أجناس أدبية محددة، لكن يبدو أن هذا الأمر «الصغير» لم يكن ليشغل الأديبة الكبيرة التي صنعت عالمها الأدبي من قناعاتها الشخصية وأفكارها المستقلة بعيداً من سيطرة المعتقدات القديمة في الأدب والحياة، سواء في الشكل أو المضمون. يُعتبر كتاب «حياة الصبايا والنساء» الصادر مُترجماً إلى العربية عن «مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة» أخيراً، من أوائل أعمال مونرو الأدبية، إذ كتبته عام 1971 وهي لم تزل في طور البدايات بعد، مع ذلك يحمل الكتاب لُب تجربة أليس الثائرة والمُجددة في البناء القصصي. الكتاب يمكن فهمه في إطار أنه رواية تشبه السيرة، ويمكن أيضاً قراءته كأعمال قصصية متتالية تأتي في تسعة فصول وتعرض حياة البطلة «ديل غوردان» منذ طفولتها وحتى مرحلة شبابها، من دون أن تكتفي الكتابة بالانكفاء على ذات الساردة أو الراوية، إنما تقدم صورة مشبعة بالتفاصيل للمجتمع الكندي الذي نشأت فيه، سواء في طريق فلاتس الريفي البسيط أو حين انتقلت للعيش في المدينة بكل قيمها وأفكارها المختلفة. تأتي شخصيات الكتاب مأزومة من شيء داخلي عميق لا تُصرّح به يجعلها دائماً عُرضة للإتيان بتصرفات مخبولة تثير الضحك أحياناً والتجهم أحياناً أخرى، فالعم «بيني» الذي يسكن طريق فلاتس ويعيش على قراءة الصحف ذات الحوادث الغريبة مستعيراً هيئة الرجل العجوز وهو لم يبلغ السابعة والثلاثين بعد، يصير جزءاً من حادثة غريبة أيضاً حين يتزوج امرأة غير سليمة عقلياً تضرب ابنتها الرضيعة، ثم تهجره ذات صباح في شكل فُجائي من دون أن يكون ثمة تفسير للأمر، ليجلس «بيني» بعد ذلك يعبر عن ذاته بضحكات متوترة مضطربة لا تُفضي إلى شيء، وفي الشكل نفسه يتقدم العم «كريج» في الفصل الثاني كشخص مهووس بجمع كل تفاصيل حياة المدينة محل سكنه بدءاً من أسماء المحال إلى تواريخ ميلاد أفراد العائلات ووفاتهم، ممارساً عمله برعاية أختيه العمتين «إلسبيث» و «جريس»، وهما يُقدران عمله الغريب هذا ويزدريانه في الوقت ذاته. ابتداءً من الفصل الثالث المُعنون «الأميرة إدا» تغوص مونرو في منظومة الأفكار والعلاقات الاجتماعية التي تكوِّن صورة المرأة والأدوار التي يُنتظر منها القيام بها في مجتمع كندا الريفي آنذاك من خلال شخصية والدة الراوية «إدا» التي ولجت تجربة حياتية صعبة ووحيدة منذ كانت في بيت أسرتها، وحتى أسست بيتها الخاص، الأم التي لم تستطع أن تحقق شيئاً مهماً في المجال العلمي تبدو مهتمة بتكرار تجربتها الإنسانية وحتى الدينية في حياة ابنتها «ديل». فهي لا ترفض فقط الدين المسيحي لكنها أيضاً تصبح مهووسة ببيع الموسوعات العلمية، والجلوس مع الأشخاص أصحاب التجارب الفكرية المختلفة الذين يقدمون لها معرفة لم تستطع هي أن تحصل عليها من خلال شهادة جامعية، من دون أن يعنيها كثيراً ضيقهم بفضولها الطفولي لأحاديثهم. وفي الفصلين «تغيرات واحتفالات»، و «حياة الصبايا والنساء»، تتوغل أليس مونرو في عالم الإناث المُبعَد تماماً عن الرجل لأسباب اجتماعية وثقافية راسخة، ويكون الرجل دائماً على الهامش في السرد، ما يحيل إلى هامشيته في الحياة أيضاً، أصداء هذا مثلاً في العلاقة غير المفهومة ولا المحددة بين «إدا» وزوجها الذي يبدو أنه انفصل عنها واختار العيش في طريق فلاتس، فيما انتقلت هي والابنة «ديل» إلى «جوبيلي» المدينة وحدهما. تعيش «ديل» التغيرات الفسيولوجية المصاحبة لمرحلة البلوغ التي تسبب لها شعوراً بالشذوذ أحياناً وبالخبل أحياناً أخرى، ويقدم السرد في المقابل أنماطاً أخرى من الذات الأنثوية التي سارت بالضبط داخل الحدود المُقيدة الموضوعة من المجتمع للمرأة، واستمرأت هي الخضوع لها، في الوقت الذي تبدو شخصية البطلة «ديل» مُجبرة إجباراً على السير في طريق آخر معاكس نتيجة بنيتها النفسية والفكرية التي أبعدتها عن السرب. وفي «تعميد» تبدو العلاقة مع الرجل بما يمثله من احتمالات لممارسة الجنس المجهول، علاقة مضطربة تقوم على الرغبة، والعاطفة الواهنة وتُستكمل كحائط صد لأحلام «ديل» في الترقي والنبوغ العلمي، وتُضحي الراوية في البداية بشيء منها في سبيل استمرار العلاقة لكنها تصطدم أخيراً بالحائط النهائي، هو فكرة تعميدها وفقاً للمُعتقد المسيحي الذي ورثت «ديل» من أمها ضعف الإيمان به. وتعود «ديل» من هذه العلاقة بخيبة نفسية وحياتية مضاعفة، تحوّلها في نظر ذاتها إلى مخبولة بالكامل تبكي على أشعار سخيفة وتلتهم كميات مختلفة من الطعام بشراهة، ومن ثم تختبئ في الفضاء الوحيد القادر على احتواء شذوذها وعوزها النفسي بالكامل، عالم الأدب والكتابة. هكذا، تحقق «ديل» في الفصل الأخير من الكتاب «المصور» روايتها الأولى، تحقيقاً ذهنياً فقط، وكأنه نصف عجز، وتحاول في هذه الرواية أن تبني عالماً كاملاً من الصور المحيطة في ذهنها لكن، في شكل جديد مختلف محوره الدراما التي تحبها بالأشخاص النصف حقيقيين الذين يؤدون أدوارهم في هذه الحياة ضمن حالة من الخبل الكامل، لا تتيح أبداً إمكانية توقع ردود أفعالهم ولا تصرفاتهم، وتكون «ديل» وهي تبني هذا العالم الخيالي تمارس خلقاً لأسطورة شخصية بديلة بالكثير من الكِبر كما تُصرِح هي في النهاية وتكون ترسم حالة خبلها الخاصة والموازية حين تبدأ في تبني مشروع العم كريج الذي يتقصى تفاصيل المدينة وهي التي سخرت منه يوماً وضيّعت عمله المثابر الذي أهداها إياه، وكأنما تفعل مع فعله الكتاب كله، حين صنع حالة من الخبل اللذيذ التي تنتصر لفعل الكتابة، والكتابة فحسب. حياة الصبايا والنساء